26 ديسمبر 2025

بعد أكثر من عام على سقوط نظام بشار الأسد وفرار أبرز أركانه إلى الخارج، بدأت تتكشف ملامح تحركات معقدة يقودها جنرالات وضباط استخبارات سابقون، يسعون – من المنافي – إلى إعادة ترتيب أوراقهم، وخلق واقع جديد يهدد استقرار سوريا الهش. فبين التخطيط لتمرد مسلح على الأرض، وبناء شبكات ضغط سياسي في العواصم الغربية، تتقاطع المصالح والطموحات في مشهد يختلط فيه الماضي الدموي بالحاضر المضطرب.
تحقيق أجرته صحيفة «نيويورك تايمز»، استند إلى مقابلات ومراسلات مسربة ومكالمات جرى التنصت عليها، كشف أن شخصيات بارزة من النظام السابق، كانت متورطة في قمع الانتفاضة السورية على مدار أكثر من عقد، تعمل اليوم على زعزعة الحكومة السورية الوليدة، التي تشكلت عقب الإطاحة بالأسد في أواخر 2024.
ورغم أن حجم التهديد الفعلي الذي تمثله هذه التحركات لا يزال محل نقاش، فإن ما لا يمكن إنكاره هو وجود نوايا واضحة لإعادة بسط النفوذ، خصوصاً في الساحل السوري، المعقل التقليدي للطائفة العلوية، التي ينتمي إليها الأسد وعدد كبير من قادة الجيش والأجهزة الأمنية السابقين.
تشير المعلومات إلى أن بعض هذه القيادات السابقة تعمل على بناء حركة تمرد مسلح من خارج البلاد. ويبرز في هذا السياق اسم غياث الدلا، القائد السابق في الفرقة الرابعة، الذي نُقلت عنه عبارة لافتة خلال مكالمة هاتفية من لبنان في أبريل الماضي، قال فيها: «لن نبدأ حتى نتسلح بالكامل». هذه المكالمة كانت واحدة من عشرات المحادثات التي حصل عليها نشطاء سوريون قالوا إنهم اخترقوا هواتف مسؤولين كبار في النظام السابق، ولا يزالون يراقبون تحركاتهم.
ووفقاً للمراسلات، جرى توزيع أموال، وتجنيد مقاتلين، وشراء أسلحة، في محاولة لإعادة بناء شبكة عسكرية قادرة على التحرك عند اللحظة المناسبة. وتكشف الوثائق أن سهيل الحسن، القائد السابق للقوات الخاصة والمعروف بلقب «النمر»، لعب دوراً محورياً في هذه الجهود، عبر التنسيق مع شخصيات عسكرية وأمنية سابقة داخل سوريا وخارجها.
يُعد سهيل الحسن واحداً من أكثر الأسماء إثارة للجدل. فقد ارتبط اسمه خلال سنوات الحرب بتكتيكات عسكرية قاسية، واتهامات بشن هجمات على مناطق مدنية. وبعد سقوط النظام، انتقل إلى موسكو برفقة الأسد، لكنه – بحسب التحقيق – لم يكتفِ بالمنفى الهادئ.
مراسلات اطلعت عليها الصحيفة أظهرت أن الحسن كان يرسل جداول مكتوبة بخط اليد، تتضمن أعداد مقاتلين وأنواع أسلحة منتشرة في قرى الساحل السوري. وادعى في إحدى رسائله أنه «تحقق» من هويات أكثر من 168 ألف مقاتل محتمل، يمتلك بعضهم رشاشات ومدافع مضادة للطائرات وقذائف مضادة للدبابات.
وكان الحسن يختتم رسائله بعبارة لافتة: «خادمكم، برتبة مجاهد»، موجهاً كلامه إلى شخص لم يُذكر اسمه صراحة، لكن ثلاثة مصادر مطلعة أكدت أنه رامي مخلوف، ابن خال الأسد وأحد أبرز ممولي النظام السابق، الذي فر هو الآخر إلى موسكو.
بحسب المراسلات، جرى تجنيد غياث الدلا ضمن هذه الشبكة، حيث تحدث عن توزيع نحو 300 ألف دولار كمدفوعات شهرية للمقاتلين والقادة المحتملين، وطلب الموافقة على شراء معدات اتصالات عبر الأقمار الاصطناعية. كما أشار إلى اجتماعات مع قادة ميليشيات عراقية مدعومة من إيران، بحثت سبل تهريب السلاح إلى الداخل السوري دون استثارة ضربات إسرائيلية أو رصد أمني.
ولم تقتصر التحركات على ذلك، إذ أظهرت رسائل أخرى محاولات للحصول على طائرات مسيّرة وصواريخ مضادة للدبابات، فضلاً عن خطط اغتيال قيل إنها أُوقفت في مراحلها الأولى.
على الضفة الأخرى، يبرز اسم كمال حسن، الرئيس الأسبق للاستخبارات العسكرية، الذي يبدو أنه اختار مساراً مختلفاً. فبدلاً من التركيز على تمرد مسلح مباشر، تشير المعلومات إلى أنه يعمل على بناء شبكة نفوذ سياسي، مستفيداً من منظمات واجهات تعمل تحت عناوين «حماية الأقليات».
وتُتهم «مؤسسة تطوير سوريا الغربية»، التي تتخذ من بيروت مقراً لها، بأنها إحدى أدوات هذا التحرك. ورغم تقديمها نفسها كجهة إنسانية، فإن وثائق أميركية كشفت استعانتها بشركة ضغط سياسي في واشنطن بعقد تبلغ قيمته مليون دولار، بهدف الدفع نحو فرض «حماية دولية» على المناطق العلوية في سوريا.
ويرى دبلوماسيون غربيون أن هذا المسار قد يكون أكثر خطورة على المدى البعيد من أي تمرد مسلح، لأنه قد يمهد لتقسيم فعلي أو إنشاء منطقة شبه مستقلة، تحت غطاء حماية الأقليات.
ورغم حديث المتعاونين مع هذه الشبكات عن قدرة على تجنيد أفراد من الطائفة العلوية، إلا أن الصورة على الأرض أكثر تعقيداً. فكثير من العلويين لا يزالون يحملون نقمة عميقة على النظام السابق، بعد سنوات من الحرب والخسائر البشرية الفادحة، ما يجعل الاستجابة لدعوات التمرد غير مضمونة.
وفي ظل هذه المعطيات، تبدو سوريا أمام مرحلة دقيقة، حيث لا تزال الجراح مفتوحة، والانقسامات عميقة، فيما يتحرك «جنرالات الظل» بين العواصم، في محاولة لإعادة إنتاج نفوذ فقدوه بسقوط نظام حكم دام لعقود.