15 اكتوبر 2025
في كل موسم انتخابي لمجلس النواب، تتكرر المشاهد ذاتها: لافتات ضخمة تملأ الشوارع، ووعود براقة لا تسندها برامج حقيقية، وأموال تُنفق بلا حساب في حملات انتخابية يغيب عنها التنافس على الكفاءة ويعلو فيها صوت المال على صوت العقل.
إنها ظاهرة المال السياسي التي باتت سمة مقلقة في الحياة الانتخابية المصرية، حيث تتحول العملية الديمقراطية من اختيار حرّ لممثلي الشعب إلى سباق مالي بين المرشحين، يربح فيه من يملك أكثر لا من يفكر أو يخدم أفضل.
ورغم التحذيرات المستمرة من خطر المال السياسي، فإن الواقع يؤكد أن كثيرًا من المرشحين يدخلون المعركة الانتخابية اعتمادًا على ثرواتهم أو دعم رجال أعمال وأصحاب مصالح، وليس على أفكار أو برامج تنموية حقيقية. والأسوأ من ذلك، أن عملية التدقيق في خلفيات المرشحين تكاد تكون غائبة أو شكلية، فلا يُراجع سجلهم الجنائي بدقة، ولا تُدرس انتماءاتهم السابقة سواء كانت لجماعات محظورة كالإخوان المسلمين أو لتيارات أخرى ذات توجهات متطرفة أو مصلحية.
هذا الإهمال في فحص الملفات والسير الذاتية للمرشحين يفتح الباب أمام دخول شخصيات لا تحمل الكفاءة ولا النزاهة إلى البرلمان، فيتحول مجلس النواب من مؤسسة تشريعية رقابية تمثل صوت المواطن، إلى مساحة تُدار فيها المصالح الخاصة والصفقات السياسية.
لكن الخطر الأكبر لا يقف عند حدود العملية الانتخابية، بل يمتد إلى ما بعدها، حين يشعر الشباب الواعي والمثقف أنه لا يجد في البرلمان من يمثله أو يعبر عن همومه وقضاياه. فكيف يثق الشاب الذي يتابع المشهد السياسي بجدية في برلمان وصل إليه البعض عبر المال، لا عبر الكفاءة؟ وكيف يشارك في انتخابات قادمة وهو يرى أن أصوات الناخبين لا تحسمها القناعة، بل القدرة على الإنفاق؟
تلك الأسئلة تعكس حالة إحباط حقيقية تتسع بين صفوف الشباب، الذين باتوا ينظرون إلى العمل السياسي بنظرة شكّ وفقدان ثقة. فحين تغيب العدالة في التنافس، ويتراجع صوت الفكر أمام سطوة المال، يصبح الانسحاب من المشهد خيارًا طبيعيًا، بل وربما دفاعًا عن الكرامة والوعي.
إن إنقاذ الحياة السياسية من هذا المأزق يبدأ من الاعتراف بالمشكلة، ومن ثم مواجهة المال السياسي بتشريعات صارمة، وتفعيل أجهزة الرقابة، ووضع معايير واضحة وشفافة لقبول المرشحين. فالديمقراطية لا تُشترى، والبرلمان لا يُبنى بالأموال، بل بالثقة والإرادة الشعبية الحقيقية.
وحتى يتحقق ذلك، سيبقى الشباب في موقع المتفرج، يراقب المشهد بحسرة، ويبحث عن صوتٍ واحدٍ صادقٍ يستطيع أن يقنعه بأن التغيير ممكن وأن السياسة لم تُختطف بالكامل بعد...!