02 يونيو 2025
مصر التي نعرفها ليست تلك التي تُختزل في لقطات عابرة، ولا تلك التي تُقدَّم على استحياء في نشرات الأخبار أو تُقاس بمؤشرات الاقتصاد فقط.
مصر، كما عرفناها وعشناها، أعمق من ذلك بكثير. إنها وطن له نبض، وتاريخ له ضمير، وهوية لا تذوب مهما تغيّرت الملامح من حولها.
مصر لم تكن يومًا أرضًا بلا ذاكرة. هي مهد الحضارات، ومهد اللغة، ومهد الوعي الإنساني الأول. من هنا بدأ التاريخ يكتب نفسه،
وهنا وُلدت الدولة، وهنا صُنعت أولى محاولات الإنسان لفهم السماء والأرض معًا.
مصر التي نعرفها ليست مجرد أسماء مدونة في كتب أو آثار باقية في المتاحف. إنها روح تسري في شعبها، في لهجتهم، في طريقتهم في الحياة، في صبرهم الذي يُشبه المعجزة،
وفي قدرتهم الفريدة على تجاوز المحن بابتسامة، لا عن ضعف، بل عن وعي عميق بأن ما ينهض بالأوطان ليس السخط، بل الإصرار.
في مصر التي نعرفها، لم يكن الإنسان مجرد رقم في تعداد، بل هو فاعل في المشهد، صانع لهويته ومشارك في كتابة تاريخه. العامل في ورشته، والمعلم في فصله، والطبيب في مستشفاه، والمرأة في بيتها وفي عملها… جميعهم يشكّلون هذا الكيان الكبير، ويمنحونه ما يستحق من ثقل ورسوخ.
مصر التي نعرفها لا تقف عند حاضر مرتبك أو مشهد متغير. هي أعمق من الظرف، وأقوى من اللحظة.
فيها من الصلابة ما يجعلها تتجاوز كل ما يطرأ، وفيها من الحكمة ما يبقيها دائمًا على قيد الدولة.
مصر هي الفكرة التي لا تموت، حتى إن أُنهك الجسد، والذاكرة التي لا تُنسى، حتى إن حاول البعض طمسها. هي الوطن الذي لا ينكسر، مهما نال منه التعب، لأنه ببساطة… وطن يعرف نفسه جيدًا.
من هنا، تأتي الحاجة الماسة لأن يدرك الشباب قيمة هذا الوطن الذي وُلدوا فيه، لا باعتباره مجرد مكان يسكنونه، بل كهوية تحتضنهم،
وتاريخ يستحق أن يُحمَل لا أن يُهمل. فمصر، بكل ما فيها، ليست تركة قديمة نحتفل بها في المناسبات،
بل مسؤولية متجددة، ومشروع وطني يجب أن نؤمن به ونشارك في صونه وبنائه.
إن التحدي الحقيقي الذي يواجه هذا الجيل ليس فقط في مواجهة الأزمات الاقتصادية أو التقلبات السياسية،
بل في الحفاظ على المعنى، على الجوهر، على ما يميز مصر عن غيرها.
وهذا لا يتحقق إلا بالوعي، والتمسك بالثوابت الثقافية التي شكّلت وجدان هذا الشعب، جيلاً بعد جيل.
ما نراه من انصراف البعض وراء كل ما هو هزلي وسطحي تحت شعار "مجاراة العصر" و"التحديث" لا يمكن اعتباره تقدماً حقيقياً.
فليس كل ما هو جديد نافع، وليس كل ما هو شائع يستحق أن يُتبع. إن قوة الأمم لا تُقاس بمدى ضجيجها في الفضاء الرقمي،
بل بمدى حفاظها على هويتها، وبقدرتها على التحديث دون أن تفرّط في أصلها.
التحديث لا يعني نسيان اللغة، أو السخرية من العادات، أو التخلي عن المبادئ التي شكّلت صلابة الشخصية المصرية.
بل هو وعيٌ بالزمن، مقرون بإيمانٍ بالذات، واحترامٍ للماضي الذي لا يزال حيًّا في تفاصيل الحاضر.
مصر التي نعرفها، وتلك التي نؤمن بها، لا تزال تنتظر من أبنائها أن يعيدوا الاعتبار لها، لا بالشعارات،
بل بالفعل الصادق، والانتماء الواعي، والعمل الذي يرى في الوطن أكثر من مجرد عنوان على بطاقة.
إن مصر لا تطلب من شبابها أكثر من أن يحبّوها بصدق، ويدافعوا عنها بعقل، ويحلموا لها بغدٍ يليق بتاريخها.
فمن يعرف مصر حقًّا... لا يفرّط فيها.