28 ديسمبر 2025

في خطوة أثارت جدلًا واسعًا وقلقًا إقليميًا ودوليًا، أعلنت إسرائيل اعترافها بما يسمى “جمهورية أرض الصومال” كدولة مستقلة، لتكون بذلك أول دولة تمنح هذا الإقليم الانفصالي اعترافًا رسميًا منذ إعلانه الانفصال الأحادي عن جمهورية الصومال عام 1991. هذا القرار، الذي جاء خارج إطار الإجماع الدولي وقرارات الأمم المتحدة، لا يمكن النظر إليه كخطوة دبلوماسية عادية، بل يحمل في طياته تداعيات خطيرة تمس أسس القانون الدولي، وتنعكس على توازنات إقليمية حساسة، وتمتد آثارها بشكل خاص إلى القضية الفلسطينية.
أرض الصومال، الواقعة في شمال غرب الصومال، تعيش حالة انفصال فعلي منذ أكثر من ثلاثة عقود، ورغم نجاحها النسبي في بناء مؤسسات محلية وتحقيق درجة من الاستقرار مقارنة ببقية مناطق الصومال، فإن المجتمع الدولي ظل متمسكًا بمبدأ وحدة الأراضي الصومالية، ورفض الاعتراف بالإقليم كدولة مستقلة، خشية فتح الباب أمام موجات انفصال جديدة في القارة الأفريقية ومناطق أخرى من العالم. من هذا المنطلق، جاء الاعتراف الإسرائيلي ليكسر هذا الإجماع، ويطرح تساؤلات عميقة حول الدوافع الحقيقية الكامنة وراءه.
القرار الإسرائيلي يُقرأ في سياق أوسع من السعي لتعزيز النفوذ في القرن الأفريقي ومنطقة البحر الأحمر، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية قصوى بسبب قربها من مضيق باب المندب وخطوط الملاحة الدولية. كما يُنظر إليه كجزء من سياسة إسرائيلية تقوم على بناء تحالفات مع كيانات هامشية أو غير معترف بها دوليًا، بما يخدم مصالحها الأمنية والاقتصادية، ويمنحها موطئ قدم جديدًا في مناطق نفوذ تتقاطع فيها مصالح قوى إقليمية ودولية كبرى.
على الصعيد الدولي، يمثل هذا الاعتراف سابقة خطيرة تمس جوهر النظام الدولي القائم على احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها. فاعتراف دولة عضو في الأمم المتحدة بإقليم انفصالي دون موافقة الدولة الأم، ودون غطاء دولي أو قرار أممي، يفتح الباب أمام تقويض قواعد راسخة في القانون الدولي، ويشجع حركات انفصالية أخرى على السعي لفرض أمر واقع عبر التحالف مع قوى خارجية. وهو ما قد يؤدي إلى مزيد من التفكك وعدم الاستقرار في دول هشة تعاني أصلًا من أزمات سياسية وأمنية.
إقليميًا، أثار القرار الإسرائيلي موجة إدانات واسعة من الدول العربية والأفريقية والإسلامية، التي رأت فيه تهديدًا مباشرًا لأمن القرن الأفريقي واستقرار البحر الأحمر. فوجود إسرائيل في هذه المنطقة الحساسة قد يزيد من حدة التوترات القائمة، ويغذي صراعات النفوذ، ويعقد المشهد الأمني في منطقة تعاني بالفعل من نزاعات داخلية، وانتشار جماعات مسلحة، وتنافس إقليمي محتدم. كما أن تجاهل سيادة الصومال يضعف الجهود الدولية الرامية إلى إعادة بناء الدولة الصومالية ودعم وحدتها.
أما الخطر الأعمق، فيتجلى في انعكاسات هذا الاعتراف على القضية الفلسطينية. فإسرائيل، التي ترفض حتى اليوم الاعتراف الكامل بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على حدود عام 1967، تقدم من خلال هذه الخطوة نموذجًا صارخًا للانتقائية في التعامل مع مبدأ الاعتراف بالدول. فهي تعترف بإقليم انفصالي بعيد جغرافيًا وسياسيًا، بينما تواصل إنكار الحقوق الوطنية الفلسطينية، في تناقض واضح يكشف استخدام الاعتراف الدولي كأداة سياسية لا كالتزام قانوني أو أخلاقي.
هذا السلوك يهدد بتقويض المرجعيات القانونية التي تستند إليها القضية الفلسطينية، ويفتح المجال أمام تبرير سياسات الأمر الواقع، سواء عبر الاستيطان، أو الضم، أو إعادة رسم الحدود بالقوة. كما أنه يبعث برسالة خطيرة مفادها أن موازين القوة والتحالفات قد تكون أهم من الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة، وهو ما يضعف الموقف الفلسطيني في المحافل الدولية، ويمنح إسرائيل هامشًا أوسع للمناورة السياسية.
إضافة إلى ذلك، قد يسهم هذا الاعتراف في تشتيت الاهتمام الدولي عن القضية الفلسطينية، في ظل انشغال المجتمع الدولي بتداعيات أزمات جديدة وصراعات ناشئة، وهو ما يصب في مصلحة إسرائيل التي طالما سعت إلى إخراج القضية الفلسطينية من مركز الاهتمام العالمي. كما أن توظيف علاقات جديدة مع كيانات ناشئة أو غير معترف بها قد يُستخدم كورقة ضغط في مواجهة المواقف العربية والإسلامية الداعمة للفلسطينيين.
في المحصلة، فإن اعتراف إسرائيل بأرض الصومال لا يمثل مجرد تطور دبلوماسي محدود، بل يشكل خطوة ذات أبعاد استراتيجية وقانونية خطيرة، تهدد استقرار مناطق حساسة، وتقوض قواعد النظام الدولي، وتنعكس سلبًا على قضايا عادلة في مقدمتها القضية الفلسطينية. وهو اعتراف يثير مخاوف حقيقية من عالم تسوده منطق القوة والصفقات السياسية على حساب العدالة الدولية وحقوق الشعوب، ما يستدعي موقفًا دوليًا أكثر حزمًا للحفاظ على مبادئ السيادة ووحدة الدول، وحماية القضايا العادلة من محاولات التلاعب والانتقائية.