26 يونيو 2025
لا شك أن الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة تشكّل واحدة من أعظم المحطات في التاريخ الإسلامي، فقد كانت منعطفًا مصيريًا في مسيرة الدعوة، وتحولًا استراتيجيًا من الاضطهاد إلى التمكين، ومن الاستضعاف إلى بناء الدولة. ولم تكن الهجرة مجرد انتقال مكاني، بل كانت حدثًا غنيًا بالدروس والعبر التي لا تزال تنير درب الأجيال، وتمنحهم البصيرة واليقين في مواجهة التحديات.
الإيمان العميق والتوكل على الله
من أولى وأعظم الدروس التي نستلهمها من الهجرة النبوية، ذلك التوكل العميق على الله عز وجل، الذي تحلى به النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. فعندما اختبآ في غار ثور، وكان المشركون على بُعد خطوات قليلة، قال أبو بكر رضي الله عنه: "يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا"، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بثقة راسخة:
"يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" ( رواه البخاري ) .
هذا الموقف يعلّمنا أن التوكل الحقيقي ليس تواكلًا، بل يأتي بعد الأخذ بالأسباب، ثم ترك النتائج لله.
التخطيط والأخذ بالأسباب
لم تكن الهجرة حدثًا عشوائيًا، بل كانت مخططًا له بدقة وإحكام. فقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم الوقت المناسب، ونسّق مع عبد الله بن أريقط كدليل خبير في الطرق، واستأمن أسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن أبي بكر ليقوما بإيصال الطعام والأخبار.
كل هذه التدابير تُظهر أن الإسلام لا يتنافى مع التخطيط العقلي، بل يوجّه أتباعه إلى الأخذ بالأسباب، دون الاعتماد المطلق عليها، لأن النجاح مرهون أولًا وأخيرًا بتوفيق الله.
الصبر والثبات أمام الشدائد
الهجرة لم تكن نزهة، بل كانت مليئة بالتضحيات والمخاطر. فقد تعرّض المسلمون قبلها لأنواع الاضطهاد والتعذيب في مكة، منهم من استُشهد ومنهم من هاجر إلى الحبشة طلبًا للأمان. أما النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خرج من مكة وهي أحب البلاد إليه، وقال عند مغادرتها:
"والله إنكِ لأحب بلاد الله إليَّ، ولولا أن أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجتُ" (رواه الترمذي ) .
لقد كان ثبات النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على الأذى درسًا في قوة الإيمان، وصمود العقيدة أمام المغريات والمخاطر.
دور الشباب والمرأة في نصرة الدعوة
الهجرة أظهرت بجلاء الدور الحيوي للشباب والنساء في خدمة الإسلام. فقد كانت أسماء بنت أبي بكر "ذات النطاقين" تقدم الطعام في سرية تامة، متحدية الخطر. وكان عبد الله بن أبي بكر يوافي بالغار كل ليلة بالأخبار. أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد نام في فراش النبي معرضًا نفسه للقتل، في تضحية شجاعة.
تلك المواقف تؤكد أن الدعوة لا تنهض إلا بتكاتف جميع أفراد المجتمع، شبابًا وشيوخًا، رجالًا ونساءً.
الوحدة والعدل أساس بناء الدولة
عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بدأ فورًا ببناء مجتمع متماسك، فآخى بين المهاجرين والأنصار، ووضع وثيقة المدينة التي اعتُبرت أول دستور مدني في التاريخ، يضمن حقوق المسلمين وغير المسلمين.
تحويل المحنة إلى منحة
الهجرة كانت نتيجة لمحاولة قريش القضاء على الدعوة، ولكنها تحولت إلى منحة عظيمة، حيث بدأت مرحلة جديدة من القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية للمسلمين. وقد قال الله تعالى:
"إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ..." [التوبة: 40]،
ليبين أن النصر لا يأتي فقط من البشر، بل هو من عند الله، ولو اجتمع الأعداء كلهم.
دروس لا تنقضي
لقد كانت الهجرة النبوية مدرسة تربوية متكاملة، تعلّمنا الثقة بالله، وحسن التخطيط، والصبر على الشدائد، والتضحية من أجل المبادئ، وأهمية الوحدة في مواجهة التحديات. والهجرة ليست حدثًا تاريخيًا نحتفل به كل عام، بل هي روح تتجدد في كل لحظة نقرر فيها أن نترك الباطل ونلتحق بالحق، أن نُهاجر من الذنوب إلى الطاعات، ومن الغفلة إلى اليقظة.
قال تعالى:
"وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" [ النحل: 41 ] .
فليكن لنا في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، نستلهم منها العزيمة، ونستضيء بنورها في زمن الفتن.