13 يوليو 2025
شهدت الساحة السياسية التركية تحوّلًا جذريًا في العام الأخير، بعد الإعلان المفاجئ عن التوصل إلى اتفاق شامل للصلح بين الدولة التركية والقوى الكردية المسلحة، وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني (PKK). وتضمن الاتفاق، الذي تم برعاية دولية وإقليمية، نزع سلاح الفصائل الكردية المسلحة، وحل تنظيمها العسكري، مقابل منح الأكراد حزمة من الحقوق السياسية والثقافية، ودمجهم الكامل في الدولة التركية.
يمثل هذا الحدث تطورًا مفصليًا في تاريخ تركيا الحديث، وينهي عقودًا من النزاع المسلح الذي أودى بحياة أكثر من 40 ألف شخص منذ ثمانينات القرن الماضي. وسط ترحّيب كبير من المجتمع الدولي بهذا الاتفاق .
أولًا: السياق التاريخي للصراع
"منذ ولادة الجمهورية التركية الحديثة عام 1923، اصطدمت الدولة بعقبة جوهرية تمثلت في صعوبة دمج مكوّناتها العرقية المتنوعة، وفي مقدمتها الشعب الكردي الذي يشكّل ما بين 15 إلى 20% من إجمالي السكان. وشهدت العلاقة بين الدولة والأكراد توترًا مستمرًا، خصوصًا مع تصاعد النزعة القومية التركية التي سعت إلى فرض هوية موحدة على حساب الهويات المحلية.
في عام 1984، بدأ حزب العمال الكردستاني، بقيادة عبد الله أوجلان، تمردًا مسلحًا ضد الدولة التركية، مطالبًا في البداية بالانفصال، ثم لاحقًا بالحكم الذاتي والاعتراف بالحقوق الثقافية. ومنذ ذلك الحين، عاشت تركيا فصولًا دامية من العنف، شملت عمليات عسكرية، واعتقالات، وحملات تطهير، وتفجيرات، بالإضافة إلى تدخلات عسكرية في شمال العراق وسوريا.
ثانيًا: دوافع الصلح ونزع السلاح
جاءت المفاوضات الأخيرة مدفوعة بعدة عوامل:
التغيرات الإقليمية والدولية: أدت تطورات الحرب في سوريا وتراجع دعم بعض القوى الكبرى للفصائل الكردية إلى تقليص النفوذ الإقليمي للكرد، وجعل خيار السلام أكثر واقعية.
رغبة الأكراد في الحل السياسي: بعد سنوات من المعاناة، والنزيف المستمر في الأرواح والموارد، بدا أن الفصائل الكردية أدركت محدودية العمل المسلح، وبدأت تميل إلى التفاوض كخيار استراتيجي.
تغير المزاج الشعبي: تعب الشعب التركي والكردي من الحرب، وانتعشت أصوات المجتمع المدني التي طالبت بحل سياسي شامل، يضمن الأمن والحقوق للجميع.
ثالثًا: بنود الاتفاق الأساسية
تضمن الاتفاق التاريخي عدة بنود أساسية، من أبرزها:
نزع سلاح كافة الفصائل الكردية المسلحة وتسليم أسلحتهم للدولة تحت إشراف الأمم المتحدة.
حل حزب العمال الكردستاني كتنظيم عسكري وتحويله إلى كيان سياسي مدني.
إطلاق سراح السجناء السياسيين الأكراد غير المتورطين بجرائم عنف.
منح الحكم المحلي الواسع للمناطق ذات الغالبية الكردية ضمن إطار اللامركزية.
الاعتراف باللغة الكردية كلغة تعليم وإعلام رسمية في المناطق الكردية.
دمج الأكراد في المؤسسات الأمنية والعسكرية التركية بشكل متوازن.
التداعيات الداخلية والمكاسب السياسية لتركيا
داخليًا، يمثّل الاتفاق نصرًا للحكومة التي نجحت في إغلاق أحد أعقد الملفات الأمنية والسياسية. فقد ارتفعت مؤشرات الاستقرار، وتحسّنت صورة تركيا لدى المستثمرين، وبدأت بوادر التنمية تظهر في المناطق الكردية.
خامسًا: التداعيات الإقليمية والدولية
ارتياح دول الجوار
تراقب سوريا والعراق وإيران هذا التطور باهتمام بالغ. فهذه الدول تضم أقليات كردية كبيرة، وقد تشهد تأثيرًا مباشرًا من الاتفاق، سواء في شكل تهدئة أو تصاعد للمطالب الكردية لديها. لكن من جهة أخرى، فإن خفض النزاع الكردي-التركي قد يقلل من حدة التوتر الإقليمي، ويمنع تركيا من القيام بمزيد من التدخلات العسكرية عبر الحدود.
ردود الفعل الدولية
رحّبت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالاتفاق، واعتبروه خطوة في الاتجاه الصحيح نحو ديمقراطية شاملة في تركيا. وقد تم الإعلان عن حزم دعم اقتصادي وتنموي للمناطق الكردية، إضافة إلى دعم فني في عمليات نزع السلاح وإعادة الإدماج.
التنافس على كسب الأكراد سياسيًا
يُتوقع أن تشتد المنافسة بين الأحزاب التركية لاستقطاب الصوت الكردي، خاصة مع دخول أعداد كبيرة من الكرد إلى الحلبة السياسية من خلال أحزاب جديدة تمثلهم، مما سيؤدي إلى إعادة رسم الخريطة السياسية في البلاد.
يُعدّ الصلح بين الأكراد والدولة التركية خطوة تاريخية نحو إنهاء أحد أطول النزاعات في المنطقة. ومع أن الطريق نحو سلام دائم ما زال طويلًا، فإن الاتفاق يعكس نضجًا سياسيًا جديدًا لدى الطرفين، ووعيًا بأهمية التعايش والمشاركة بدلًا من الإقصاء والعنف.
الكرة الآن في ملعب القيادة السياسية التركية والكردية، لضمان تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بشفافية، وبما يضمن العدالة والكرامة لجميع المواطنين الأتراك، بمختلف أعراقهم ولغاتهم.